الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
وقال شيخ الإسلام ـ رحمه اللّه: قولـه: {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} [الناس: 4: 6] فيها أقوال، ولم يذكر ابن الجوزي إلا قولين، ولم يذكر الثالث وهو الصحيح. وهو أن قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} لبيان الوسواس، أي: الذي يوسوس من الجنة ومن الناس في صدور الناس، فإن اللّه ـ تعالى ـ قد أخبر أنه جعل لكل نبي عدوًا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورًا، وإيحاؤهم هو وسوستهم، وليس من شرط الموسوس أن يكون مستترًا عن البصر؛ بل قد يشاهد، قال تعالى: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَـذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ} [الأعراف: 20، 21]، وهذا كلام من يعرف قائله، ليس شيئًا يلقى في القلب لا يدري ممن هو، وإبليس قد أمر بالسجود لآدم فأبي واستكبر، فلم يكن ممن لا يعرفه آدم، وهو ونسله يرون بني آدم من حيث لا يرونهم، وأما آدم فقد رآه. /وقد يرى الشياطين والجن كثير من الإنس، لكن لهم من الاجتنان والاستتار ما ليس للإنس، وقد قال تعالى: وفي حديث أبي ذر عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (نعوذ باللّه من شياطين الإنس والجن) قلت: أو للإنس شياطين؟ قال: (نعم، شر من شياطين الجن). وأيضًا، فالنفس لها وسوسة كما قال تعالى: فالذي يوسوس في صدور الناس نفسه، وشياطين الجن، وشياطين الإنس. والوسواس الخناس يتناول وسوسة الجنة، ووسوسة الإنس، وإلا/أي معنى للاستعاذة من وسوسة الجن فقط، مع أن وسوسة نفسه وشياطين الإنس هي مما تضره، وقد تكون أضر عليه من وسوسة الجن؟ وأما قول الفراء: إن المراد من شر الوسواس الذي يوسوس في صدور الناس: الطائفتين من الجن والإنس، وأنه سمى الجن ناسًا، كما سماهم رجالًا، وسماهم نفرًا ـ فهذا ضعيف؛ فإن لفظ الناس أشهر وأظهر وأعرف من أن يحتاج إلى تنويعه إلى الجن والإنس، وقد ذكر اللّه ـ تعالى ـ لفظ الناس في غير موضع. وأيضًا، فكونه يوسوس في صدور الطائفتين صفة توضيح وبيان، وليس وسوسة الجن معروفة عند الناس، وإنما يعرف هذا بخبر، ولا خبر هنا، ثم قد قال: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}، فكيف يكون لفظ الناس عامًا للجنة والناس؟ وكيف يكون قسيم الشيء قسما منه؟ فهو يجعل الناس قسيم الجن، ويجعل الجن نوعًا من الناس، وهذا كما يقول: أكرم العرب من العجم والعرب، فهل يقول هذا أحد؟ ! وإذا سماهم اللّه ـ تعالى ـ رجالًا لم يكن في هذا دليل على أنهم يسمون ناسًا، وإن قدر أنه يقال: جاء ناس من الجن فذاك مع التقييد، كما يقال: إنسان من طين، وماء دافق، ولا يلزم من هذا أن يدخلوا في لفظ الناس، وقد قال تعالى: فالناس كلهم مخلوقون من آدم وحواء مع أنه ـ سبحانه ـ يخاطب الجن والإنس. والرسول صلى الله عليه وسلم مبعوث إلى الجنسين، لكن لفظ الناس لم يتناول الجن، ولكن يقول: وكذلك قول الزجاج: إن المعنى {شَرِّ الْوَسْوَاسِ} الذي هو الجنة ومن شر الناس فيه ضعف، وإن كان أرجح من الأول؛ لأن شر الجن أعظم من شر الإنس، فكيف يطلق الاستعاذة من جميع الناس ولا يستعيذ إلا من بعض الجن؟ ! وأيضًا، فالوسواس الخناس إن لم يكن إلا من الجنة فلا حاجة إلى قوله: {مِنَ الْجِنَّةِ} ومن{النَّاسِ} فلماذا يخص الاستعاذة من وسواس الجنة دون وسواس الناس؟ وأيضًا، فإنه إذا تقدم المعطوف اسمًا كان عطفه على القريب أولى، كما أن عود الضمير إلى الأقرب أولى، إلا إذا كان هناك دليل يقتضى العطف على البعيد، فعطف الناس هنا على الجنة المقرون به أولى من عطفه على الوسواس. /ويكفي أن المسلمين كلهم يقرؤون هذه السورة من زمن نبيهم ولم ينقل هذان القولان إلا عن بعض النحاة، والأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان ليس فيها شيء من هذا، بل إنما فيها القول الذي نصرناه، كما في تفسير معمر عن قتادة {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} قال: إن في الجن شياطينًا، وإن في الإنس شياطينًا، فنعوذ باللّه من شياطين الإنس والجن، فبين قتادة أن المعنى الاستعاذة من شياطين الإنس والجن. وروى ابن وهب، عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله: {الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} قال: الخناس: الذي يوسوس مرة ويخنس مرة من الجن والإنس، فبين ابن زيد أن الوسواس الخناس من الصنفين. وكان يقال: شياطين الإنس أشد على الناس من شياطين الجن؛ شيطان الجن يوسوس ولا تراه، وهذا يعاينك معاينة. وعن ابن جُرَيْج: {مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ} قال: إنهما وسواسان، فوسواس من الجنة فهو {الْخَنَّاسِ}، ووسواس من نفس الإنسان فهو قوله: {وَالنَّاسِ}، وهذا القول الثالث وإن كان يشبه قول الزجاج، فهذا أحسن منه، فإنه جعل من الناس الوسواس الذي من نفس الإنسان، فمعناه أحسن، ذكر الثلاثة ابن أبي حاتم في تفسيره. /وأيضًا، فإنه ذكر في الآية: فغاية المؤمنين الأنبياء فمن دونهم هي التوبة، قال اللّه تعالى: /فكان الوسواس مبدأ كل شر، فإن كانوا قد استعاذوا بربهم وملكهم وإلههم من شره، فقد دخل في ذلك وسواس الجن والإنس، وسائر شر الإنس إنما يقع بذنوبهم، فهو جزاء على أعمالهم، كالشر الذي يقع من الجن بغير الوسواس، وكما يحصل من العقوبات السماوية. وهم لم يستعيذوا هنا من شر المخلوقات مطلقًا، كما استعاذوا في سورة الفلق، بل من الشر الذي يكون مبدؤه في نفوسهم، وإن كان ذكر رب الناس ملك الناس إله الناس يستعيذوا به ليعيذهم، وليعيذ منهم، وهذا أعم المعنيين، فذلك يحصل بإعاذته من شر الوسواس، الموسوس في صدور الناس، فإنه هو الذي يوسوس بظلم الناس بعضهم بعضًا، وبإغواء بعضهم بعضًا، وبإعانة بعضهم بعضًا على الإثم والعدوان. فما حصل لإنسي شر من إنسي إلا كان مبدؤه من الوساس الخناس وإلا فما يحصل من أذى بعضهم لبعض إذا لم يكن من الوسواس، بل كان من الوحي الذي بعث اللّه به ملائكته كان عدلًا، كإقامة الحدود، وجهاد الكفار، والاقتصاص من الظالمين، فهذه الأمور فيها ضرر وأذى للظالمين من الإنس، لكن هي بوحي اللّّه لا من الوسواس، وهي نعمة من اللّه في حق عباده، حتى في حق المعاقب، فإنه إذا عوقب كان ذلك كفارة له إن كان مؤمنًا، وإلا كان تخفيفًا لعذابه في الآخرة بالنسبة إلى عذاب من لم يعاقب في الدنيا. /ولهذا كان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة في حق العالمين باعتبار ما حصل من الخير العام به، وما حصل للمؤمنين به من سعادة الدنيا والآخرة، وباعتبار أنه في نفسه رحمة فمن قبلها، وإلا كان هو الظالم لنفسه، وباعتبار أنه قمع الكفار والمنافقين فنقص شرهم، وعجزوا عما كانوا يفعلونه بدونه، وقتل من قتل منهم، فكان تعجيل موته خيرًا من طول عمره في الكفر له وللناس، فكان محمد صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين بكل اعتبار، فلا يستعاذ منه ومن أمثاله من الأنبياء وأتباعهم المؤمنين، وهم من الناس، وإن كانوا يفعلون بأعدائهم ما هو أذى وعقوبة وألم لهم، فلم تبق الاستعاذة من الناس إلا مما يأتى به الوسواس إليهم، فيستعاذ برب الناس ملك الناس إله الناس على هذا التقدير من شر الوسواس الذي يوسوس للمستعيذ، ومن شر الوسواس الذي يوسوس لسائر الناس، حتى لا يحصل منهم شر للمستعيذ، فإذا لم يكن للناس شر إلا من الوسواس كانت الاستعاذة من شر الذي يوسوس لهم تحصيلًا للمقصود، وكان حسمًا للمادة، وأقرب إلى العدل، وكان مخرجًا لأنبياء اللّه وأوليائه أن يستعاذ من شرهم، وأن يقرنوا بالوسواس الخناس، ويكون ذلك تفضيلًا للجن على الإنس، وهذا لا يقوله عاقل. فإن قيل: فإن كان أصل الشر كله من الوسواس الخناس، فلا حاجة/إلى ذكر الاستعاذة من وسواس الناس، فإنه تابع لوسواس الجن. قيل: بل الوسوسة نوعان: نوع من الجن، ونوع من نفوس الإنس، كما قال: و{بِرَبِّ النَّاسِ}: الذي يربيهم بقدرته ومشيئته وتدبيره، وهو رب العالمين كلهم، فهو الخالق للجميع، ولأعمالهم. و{مَلِكِ النَّاسِ}: الذي يأمرهم وينهاهم، فإن الملك يتصرف بالكلام والجماد لا ملك له، فإنه لا يعقل الخطاب، لكن له مالك، وإنما يكون الملك لمن يفهم عنه، والحيوان يفهم بعضه عن بعض، كما قال: وقد قيل: إنما خص الناس بالذكر؛ لأنهم مستعيذون، أو لأنهم/ المستعاذ من شرهم، ذكرهما أبو الفرج، وليس لهما وجه، فإن وسواس الجن أعظم ولم يذكره، بل ذكر الناس لأنهم المستعيذون، فيستعيذون بربهم الذي يصونهم، وبملكهم الذي أمرهم ونهاهم، وبإلههم الذي يعبدونه من شر الذي يحول بينهم وبين عبادته، ويستعيذون ـ أيضًا ـ من شر الوسواس الذي يحصل في نفوس الناس منهم ومن الجنة، فإنه أصل الشر الذي يصدر منهم والذي يرد عليهم.
وبهذا يتبين بعض هذه الاستعاذة والتي قبلها كما جاءت بذلك الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يستعذ المستعيذون بمثلهما، فإن الوسواس أصل كل كفر وفسوق وعصيان، فهو أصل الشر كله، فمتى وقى الإنسان شره وقى عذاب جهنم، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال، فإن جميع هذه إنما تحصل بطريق الوسواس، ووقى عذاب اللّه في الدنيا والآخرة، فإنه إنما يعذب على الذنوب، وأصلها من الوسواس، ثم إن دخل في الآية وسواس غيره بحيث يكون قوله: والوسواس من جنس الحديث والكلام؛ ولهذا قال المفسرون في قوله: وهو نوعان: خبر، وإنشاء. فالخبر إما عن ماض، وإما عن مستقبل. فالماضي يذكره به، والمستقبل يحدثه بأن يفعل هو أمورًا، أو أن أمورًا ستكون بقدر اللّه، أو فعل غيره، فهذه الأماني والمواعيد الكاذبة، والإنشاء أمر ونهي وإباحة. والشيطان تارة يحدث وسواس الشر، وتارة ينشئ الخير، وكان ذلك بما يشغله به من حديث النفس، قال تعالى في النسيان: / وثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضُراط؛ حتى لا يسمع التأذين، فإذا قضى التأذين أقبل، فإذا ثوب بالصلاة أدبر، فإذا قضى التثويب أقبل، حتى يخطر بين المرء ونفسه، فيقول: اذكر كذا، اذكر كذا، لما لم يذكر حتى يظل الرجل لم يَدْرِ كَمْ صَلَّى). فالشيطان ذكره بأمور ماضية، حدث بها نفسه مما كانت في نفسه من أفعاله ومن غير أفعاله، فبتلك الأمور نسى المصلى كم صلى، ولم يدر كم صلى، فإن النسيان أزال مافي النفس من الذكر، وشغلها بأمر آخر حتى نسي الأول. وأما إخباره بما يكون في المستقبل من المواعيد والأماني فكقوله: وقد قال غير واحد من الصحابة ـ كأبي بكر وابن مسعود فيما يقولونه باجتهادهم ـ: إن كان صوابًا فمن اللّه، وإن كان خطأ فمنى ومن الشيطان. فجعلوا ما يلقى في النفس من الاعتقادات التي ليست مطابقة من الشيطان، وإن لم يكن صاحبها آثمًا لأنه استفرغ وسعه، كما لا يأثم بالوسواس الذي يكون في الصلاة من الشيطان، ولا بما يحدث به نفسه، وقد قال المؤمنون: والنسيان للحق من الشيطان، والخطأ من الشيطان، قال تعالى: وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (الرؤيا ثلاثة: رؤيا من اللّه، ورؤيا من الشيطان، ورؤيا ما يحدث به المرء نفسه في اليقظة فيراه في النوم). وقد قيل: إن هذا من كلام ابن سيرين، لكن تقسيم الرؤيا إلى نوعين: نوع من اللّه، ونوع من الشيطان صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب، فهذان النوعان من وسواس النفس، ومن وسواس الشيطان، وكلاهما معفو عنه، فإن النائم قد رُفِع القلم عنه، ووسواس الشيطان يغشى القلب كطيف الخيال، فينسيه ما كان معه من الإيمان حتى يعمى عن الحق فيقع في الباطل، فإذا كان من المتقين كان كما قال اللّه: لكن طيف الشيطان غير رين الذنوب، هذا جزاء على الذنب، والغين ألطف من ذلك، كما في الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (إنه ليَغانُ على قلبي، وإني لأستغفر اللّه في اليوم سبعين مرة). فالشيطان يلقى في النفس الشر، والملك يلقى الخير. وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة، وقرينه من الجن). قالوا: وإياك يارسول اللّه؟ قال: (وإياي إلا أن اللّه أعانني عليه فأسلم). وفي رواية: (فلا يأمرنى إلا بخير) أي: استسلم وانقاد. وكان ابن عُيينة يرويه: فأسلم ـ بالضم ـ ويقول: إن الشيطان لا يسلم، لكن قوله في الرواية الأخرى: (فلا يأمرني إلا بخير) دل على أنه لم يبق يأمره بالشر، وهذا إسلامه، وإن كان ذلك كناية عن خضوعه وذلته لا عن إيمانه باللّه ـ كما يقهر الرجل عدوه الظاهر ويأسره، وقد عرف العدو المقهور أن ذلك القاهر يعرف ما يشير به عليه من الشر ـ فلا يقبله، بل يعاقبه على ذلك، فيحتاج لانقهاره معه إلى أنه لا يشير عليه إلا بخير لذلته وعجزه لا لصلاحه ودينه؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (إلا أن اللّه أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير). وقال ابن مسعود: إن للملك لمة، وإن للشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير، / وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق. وقد قال تعالى: وعكس هذا قوله تعالى: وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (من سأل القضاء واستعان عليه وكل إليه، ومن لم يسأل القضاء، ولم يستعن عليه، أنزل اللّه عليه ملكا يسدده). فهذا الملك يجعله سديد القول بما يلقى/في قلبه من التصديق بالحق، والوعد بالخير، وقد قال تعالى: والصلاة هي الدعاء، إما بخير يتضمن الدعاء، وإما بصيغة الدعاء، فالملائكة يدعون للمؤمنين، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: (والملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مصلاه: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه، مالم يحدث). فبين أن صلاتهم قولهم: اللهم اغفر له، اللهم ارحمه. وفي الأثر: (إن الرب يصلي فيقول: سبقت ـ أو غلبت ـ رحمتي غضبي). /وهذا كلامه ـ سبحانه ـ هو خبر وإنشاء، يتضمن أن الرحمة تسبق الغضب وتغلبــه، وهو ـ سبحانه ـ لا يدعو غيره أن يفعل كما يدعوه الملائكة وغيرهم من الخلق، بل طلبه بأمره وقوله وقسمه، كقوله: لأفعلن كذا، وقوله: كن فيكون، وقوله: لأفعلن كذا قسم منه، كقوله: وقد قال تعالى: /والملائكة رسل اللّه. ولفظ الملك يتضمن معنى الرسالة، فإن أصل الكلمة: ملأك على وزن مفعل، لكن لكثرة الاستعمال خففت، بأن ألقيت حركة الهمزة على الساكن قبلها وحذفت الهمزة، وملاك مأخوذ من المألك والملأك، بتقديم الهمزة على اللام، واللام على الهمزة، وهو الرسالة، وكذلك الألوكة بتقديم الهمزة على اللام، قال الشاعر: أبــلغ النعمــان عني مالكًـــا ** أنه قد طــال حبسي وانتظاري وهذا بتقديم الهمزة. لكن الملك هو بتقديم اللام على الهمزة، وهذا أجود، فإن نظيره في الاشتقاق الأكبر: لاك يلوك، إذا لاك الكلام، واللجام، والهمز أقوى من الواو، ويليه في الاشتقاق الأوسط: أكل يأكل، فإن الآكل يلوك ما يدخله في جوفه من الغذاء، والكلام والعلم ما يدخل في الباطن ويغذى به صاحبه. قال عبد اللّه بن مسعود: إن كل آدب يحب أن تؤتى مأدبته، وإن مأدبة اللّه القرآن، والآدب المضيف، والمأدبة الضيافة، وهو ما يجعل من الطعام للضيف، فبين أن اللّه ضيف عباده بالكلام الذي أنزله إليهم، فهو غذاء قلوبهم وقوتها، وهو أشد انتفاعا به، واحتىاجا إليه من الجسد بغذائه. وقال علي ـ رضي اللّه عنه: الربانيون: هم الذين يغذون الناس بالحكمة، /ويربونهم عليها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني). وقد أخبر اللّه ـ تعالى ـ أن القرآن شفاء لما في الصدور، والناس إلى الغذاء أحوج منهم إلى الشفاء في القلوب والأبدان، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم قال: (مثل ما بعثني اللّه به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضًا فكانت منها طائفة أمسكت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها طائفة أمسكت الماء فشرب الناس وسقوا وزرعوا، وكانت منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين اللّه ونفعه ما بعثنى اللّه به من الهدى والعلم، ومثل من لم يرفع بذلك رأسًا ولم يقبل هدى اللّه الذي أرسلت به). فأخبر أن ما بعث به للقلوب كالماء للأرض، تارة تشربه فتنبت، وتارة تحفظه، وتارة لا هذا ولا هذا، والأرض تشرب الماء وتغتذى به حتى يحصل الخير، وقد أخبر اللّه ـ تعالى ـ أنه روح تحيا به القلوب فقال: وإذا كان ما يوحيه إلى عباده تارة يكون بوساطة ملك، وتارة بغير وساطة، فهذا للمؤمنين كلهم مطلقًا لا يختص به الأنبياء، قال/تعالى: وقد صار في العرف لفظ الإلهام إذا أطلق لا يراد به الوسوسة. وهذه الآية مما تدل على أنه يفرق بين إلهام الوحي، وبين الوسوسة. فالمأمور به إن كان تقوى اللّه فهو من إلهام الوحي، وإن كان من الفجور فهو من وسوسة الشيطان. فيكون الفرق بين الإلهام المحمود وبين الوسوسة المذمومة هو الكتاب والسنة، فإن كان مما ألقى في النفس مما دل الكتاب والسنة على أنه تقوى للّه فهو من الإلهام المحمود، وإن كان مما دل على أنه فجور فهو من الوسواس المذموم، وهذا الفرق مطرد لا ينتقض. وقد ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال: ما كرهته/ نفسك لنفسك فهو من الشيطان، فاستعذ باللّه منه، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه. وقد تكلم النظار في العلم الحاصل في القلب عقب النظر والاستدلال فذكروا فيه ثلاثة أقوال، كما ذكر ذلك أبو حامد في (مستصفاه) وغيره قول الجهمية، وقول القدرية، وقول الفلاسفة. وكثير من أهل الكلام لا يذكر إلا القولين: قول الجهمية، وقول القدرية. وذلك أنهم يذكرون في كتبهم ما يعرفونه من أقوال من يعرفونه تكلم في هذا، وهم لا يعرفون إلا هؤلاء، والمسألة هي من فروع القدر، فإن الحاصل في نفس حادث فيها، فالقول فيه كالأقوال في أمثاله. ومذهب جهم ومن وافقه ـ كأبي الحسن الأشعري، وكثير من المتأخرين المثبتة ـ هو مذهب أهل السنة والجماعة: إن اللّه خالق كل شيء، وإن اللّه خالق أفعال العباد. لكنه لا يثبت سببًا ولا قدرة موثرة، ولا حكمة لفعل الرب، فأنكر الطبائع والقوى التي في الأعيان وأنكر الأسباب والحكم؛ فلهذا لم يجعل لشيء سببًا، بل يقول: هذا حاصل بخلق اللّه وقدرته، ولم يذكروا له سببًا، وهم صادقون في/ إضافته إلى قدره، وأنه خالقه، خلافًا للقدرية، لكن من تمام المعرفة إثبات الأسباب ومعرفتها. وأما القدرية من المعتزلة وغيرهم، فبنوه على أصلهم، وهو أن كل ما تولد عن فعل العبد فهو فعله لا يضاف إلى غيره، كالشبع، والرى، وزهوق الروح، ونحو ذلك، فقالوا: هذا العلم متولد عن نظر العبد أو تذكر النظر. والمتفلسفة بنوه على أصلهم: في أن ما يحدث من الصور هو من فيض العقل الفعال عند استعداد المواد القابلة، فقالوا: يحصل في نفوس البشر من فيض العقل الفعال عند استعداد النفس باستحضار المقدمتين. وهذا القول خطأ، والذي قبله أقرب منه، والأول أقرب، وليس في شيء منها تحقيق الأمر في ذلك. وحقيقته أن اللّه وكل بالإنس ملائكة وشياطين، يلقون في قلوبهم الخير والشر، فالعلم الصادق من الخير، والعقائد الباطلة من الشر، كما قال ابن مسعود: لمة الملك تصديق بالحق، ولمة الشيطان تكذيب بالحق، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في القاضى: (أنزل اللّه عليه مَلَكًا يسدده). وكما أخبر اللّه أن الملائكة توحي إلى البشر ما توحيه، وإن كان البشر لا يشعر بأنه من الملك، كما لا يشعر بالشيطان الموسوس. /لكن اللّه أخبر أنه يكلم البشر وحيًا، ويكلمه بملك يوحي بإذنه ما يشاء، والثالث التكليم من وراء حجاب. وقد قال بعض المفسرين: المراد بالوحي هنا الوحي في المنام، ولم يذكر أبو الفرج غيره، وليس الأمر كذلك؛ فإن المنام تارة يكون من اللّه، وتارة يكون من النفس، وتارة يكون من الشيطان، وهكذا ما يلقى في اليقظة، والأنبياء معصومون في اليقظة والمنام. ولهذا كانت رؤيا الأنبياء وحيًا، كما قال ذلك ابن عباس، وعبيد بن عمير، وقرأ قوله:
/وقال شيخ الإسلام ـ قدسَ اللّه روحَه: في (سورة الفلق والناس) في [الفلق] أقوال ترجع إلى تعميم وتخصيص، فإنه فسر بالخلق عمومًا، وفسر بكل ما يفلق منه كالفجر والحب والنوى، وهو غالب الخلق، وفسر بالفجر. وأما تفسيره بالنار، أو بجب، أو شجرة فيها، فهذا مرجعه إلى التوقيف. و(الغاسق) قد روى في الحديث المرفوع عن عائشة في الترمذي والنسائى؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر وقال لها: (ياعائشة، تَعَوَّذِى باللّه من هذا، فهذا الغاسق إذا وقب). قال ابن قتيبة: الغاسق: القمر إذا كُسِفَ فاسود، ومعنى [وقب]: دخل في الكسوف. والمشهور عند أهل التفسير واللغة أن [الغاسق]: الليل، [وقب]: دخل/في كل شيء فأظلم، و[الغَسَقُ]: الظلمة. وقال الزجاج: الغاسق: البارد، فقيل لليل: غاسق؛ لأنه أبرد من النهار، أو يقال: الغَسَقُ: السيلانُ والإحاطةُ، وغسق الليل: سيلانه وإحاطته بالأرض، وإذا فسر بالقمر، فقد يقال: وقوبه، أي: دخوله، وهو دخوله في الكسوف، ولا منافاة بين تفسيره بالليل وبالقمر؛ فإن القمر آية الليل، فهنا ثلاث مراتب: الليل مطلقًا، ثم القمر مطلقًا، ثم القمر حال كسوفه. وهذا مناسب لما ذكر في المستعاذ به، فإن عموم الفلق للخلق بإزاء من شر ما خلق، وخصوصه بالفجر الذي هو ظهور النور بإزاء الغاسق إذا وقب، الذي هو دخول الظلام. وقال ابن زيد: الغَاسِقُ: الثريا إذا سقطت، وكانت الأسقام والطواعين تكثر عند وقوعها، وقد تقع عند طلوعها، ويشبه ـ واللّه أعلم ـ أن يكون من الحكمة في ذلك: أن النور هو جنس الخير، والظلمة جنس الشر، وفي الليل يقع من الشرور النفسانية ما لا يقع في النهار، والقمر له تأثير في الأرض لا سيما حال كسوفه؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنهما آيتان يخوف اللّه بهما عباده). والتخويف إنما يكون بانعقاد سبب الخـوف، ولا يكون ذلك إلا عند سبب العذاب، أو مظنته، فعلم أن الكسوف مظنة حدوث عذاب بأهل الأرض؛/ ولهذا شرع عند الكسوف الصلاة الطويلة، والصدقة، والعَتَاقَةُ، والدعاء لدفع العذاب، وكذلك عند سائر الآيات التي هي إنشاء العذاب، كالزلزلة، وظهور الكواكب، وغير ذلك. وهو أقرب الكواكب التي لها تأثير في الأرض بالترطيب واليبس وغير ذلك. ولهذا كان الطالبون للمنفعة والمضرة من الكواكب إنما يأخذون الأحداث بحسب سير القمر، فإذا كان في شرفه ـ كالسرطان ـ كان الوقت عندهم سعيدًا، وإذا كان في العقرب ـ وهو هبوطه ـ كان نحسًا، فهذا في علمهم، وكذلك في عملهم من السحر وغيره: القمر أقرب المؤثرات، حتى صنفوا [مصحف القمر] لعبادته وتسبيحه، فوقع ترتيب المستعاذ منه في هذه السورة على كمال الترتيب، انتقالًا من الأعم الأعلى الأبعد إلى الأخص الأقرب الأسفل، فجعلت أربعة أقسام: الأول: من شر المخلوقات عمومًا، وقول الحسن: إنه إبليس وذريته، وقول بعضهم: إنه جهنم ذكر للشر الذي هو لنا شر محض من الأرواح والأجسام. والثانى: شر الغاسق إذا وقب، فدخل فيه ما يؤثر من العلويات في السفليات من الليل وما فيه من الكواكب، كالثريا وسلطانه الذي هو القمر، ودخل في ذلك سحر التمرسحات الذي هو أعلى السحر وأرفعه. /الثالث: شر النفاثات في العقد، وهن السواحر اللواتى يتصورن بأفعال في أجسام. والرابع: الحاسد، وهي النفوس المضرة سفهًا، فانتظم بذلك جميع أسباب الشرور، ثم خص في [سورة الناس] الشر الصادر من الجن والإنس، وهم الأرواح المضرة.
وتظهر المناسبة بين السورتين من وجه آخر، وهو أن المستعاذ منه هو الشر، كما أن المطلوب هو الخير: إما من فعل العبد، وإما من غير فعله. ومبدأ فعله للشر هو الوسواس، الذي يكون تارة من الجن، وتارة من الإنس. وحسم الشر بحسم أصله ومادته أجود من دفعه بعد وقوعه. فإذا أعيذ العبد من شر الوسواس الذي يوسوس في الصدور، فقد أعيذ من شر الكفر والفسوق والعصيان، فهذا في فعل نفسه، وتعم الآية ـ أيضًا ـ فعل غيره لسوء معه، فكانت هذه السورة للشر الصادر من العبد، وأما الشر الصادر من غيره فسورة [الفلق] فإن فيها الاستعاذة من شر المخلوقات عمومًا وخصوصًا. واللّه أعلم.
|